احلام الطاقة الذرية العراقي ….. ومحاولات الايقاظ

احلام الطاقة الذرية العراقي ..... ومحاولات الايقاظ

أ.د. عبد الرزاق عبد الجليل العيسى
تأريخ الطاقة الذرية في العراق
عندما ابتدأت الحكومة العراقية رحلتها في تطوير البحث العلمي في مجال الطاقة الذرية ،انشأت في عام 1956 لجنة الطاقة الذرية العراقية حيث يرتبط رئيسها بمكتب رئيس الوزراء. وبموجب مبادرة (الذرة من أجل السـلام) التي أعلنها الرئيس ايزنهاور في كانون الأول 1953 أهدت لجنة الطاقة الذرية الأمريكية مكتبة تضم العديد من المنشورات الأمريكية المعلنة والصادرة عنها، بما فيها بعض تقارير (مشروع منهاتن). كما عملت على إهداء العراق مفاعلا نوويا للأبحاث بقدرة 5 ميغاوات، وقد تم شحن المفاعل من الولايات المتحدة الامريكية الى العراق، الا ان قيام انقلاب 14 تموز 1958 غير وجهة النظر الامريكية تجاه العراق الذي اعتبرته بلدا غير مستقر فأمرت الباخرة الحاملة للمفاعل بتغيير وجهتها لتذهب الى إيران وليسلم المفاعل النووي التجريبي لجامعة طهران لبدأ من هذه النقطة مسار المشروع النووي الايراني. في العام 1959 ونتيجة لتوجه علاقات جمهورية العراق ناحية المعسكر الشرقي، تم الاتفاق مع الاتحاد السوفياتي على تجهيز وبناء مفاعل نووي للأبحاث والدراسات ومنشأة لإنتاج العدد الطبية والصيدلانية. ومع وصول وتنصيب المفاعل الروسي ومباني الخدمات الخاصة به عام 1964 تم اتخاذ القرار بتأسيس مركز البحوث النووية والذي ضم خمسة أقسام في حينه.
في عام 1968 قام العراق باستيراد مفاعل نووي صغير ومحدود الإمكانيات والذي جهزه وشيده الاتحاد السوفياتي في موقع التويثة، وهو من نوع الحوض المائي وبقدرة 2 ميغاوات، والذي عرف باسم مفاعل 14 تموز.
وبالتأكيد لم يكن لدى العراق في ذلك الوقت أي طموح لامتلاك سلاح نووي لكن كان لدى العراق الطموح بالتحضير واللحاق بركب الطاقة النووية للاستخدامات السلمية بدليل ان العراق
تم تأسيس منظمة الطاقة الـذريـة عام 1974 حيث صدر قانون منظمة الطاقة الذرية العراقية الذي ربطها بمجلس قيادة الثورة، ويترأسها نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ويديرها ادرياً نائب رئيس المنظمة وبرامج عملها تديرها لجنة الطاقة الذرية.
في العام 1978 تم الانتهاء من تطوير مفاعل 14 تموز ورفع قدرته إلى 5 ميكاواط، ولكنه أصبح لا يفي بالاحتياجات العلمية للمنظمة مما دفع العراق للبحث عن انشاء مشروع اخر.
ومنذ بداية السبعينات تحرك العراق على فرنسا للحصول على التقنيات الغربية المتقدمة والمتطورة في مجال التسلح النووي وجاءت زيارة جاك شيراك إلى بغداد في كانون الأول (ديسمبر) عام 1975 عندما كان رئيسا للوزراء لتكلل التعاون الفرنسي العراقي في صورة تجهيز العراق بمفاعل يعمل بالماء المخفف واليورانيوم المخصب بنسبة 93% وتوجت الاتفاقات بعد الزيارة بتوقيع العقد الفرنسي في تشرين الثاني 1976،حيث وقع العراق عقدا مع تجمع من الشركات الفرنسية وبعلم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لتجهيز وإنشاء مفاعل بحوث من نوع الحوض المائي بطاقة 40 ميكا واط ومشـابه لمفاعل (Osiris) في مركز بحوث سأكلئ جنوب باريس، لذلك عرف مفاعل 17 تموز في الوثائق الفرنسية باسم أوزيراك (Osirak) .
على هامش الاتفاق العراقي الفرنسي وضمن سعي العراق للحصول على التكنولوجيا النووية تم توقيع مشروع 30 تموز – او ما عرف بالعقد الإيطالي، ضمن اتفاقية التعاون المشترك بين لجنتي الطاقة الذرية العراقية والإيطالية (CNEN)، الموقعة في كانون الثاني 1976، تم توقيع عقد مع شركة (SNIA-Technit)، وبعلم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لتجهيز وانشاء مختبرات ساندة للمفاعلات (مشروع 30 تموز).
وكانت سنوات السبعينات من القرن العشرين تحمل في طياتها خطى بناء أول مفاعل نووي في الوطن العربي الا وهو مفاعل تموز النووي العراقي بمبلغ قدره 450 مليون دولار أمريكي على أن يكون نسخة مماثلة تستخدم في صنع المفاعلات النووية، وقد صمم المفاعل العراقي ليكون بقدرة 40 ميغا وات حراري وسماه الفرنسيون “اوزيراك -1” بينما كان معروف في العراق باسم” تموز – 1. علماً أن الوقود المستخدم لتشغيل هذا المفاعل هو من نوع سبيكة اليورانيوم والألومنيوم ويحتوي على يورانيوم بتخصيب 93%. وإلى جانب هذا المفاعل أنشئ مفاعل صغير “اوزيراك -2” وهو مفاعل ذو قدرة 500 كيلو واط حراري فقط وينتج فيضاً نيوترونياً حرارياً ويستخدم كنموذج نيوتروني لمفاعل تموز-1.
وكخطوة لاحقة كان التوجه نحو انشاء محطة كهرونووية لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة 400 ميكاواط. لذلك فاوضت منظمة الطاقة الذرية العراقية شركات المانية وفرنسية وبريطانية وايطالية ويابانية وكندية وبلجيكية وفنلندية عاملة في هذا المجال، وكانت القناعة تميل نحو فنلندا والتي استمر التفاوض معها الى منتصف الثمانينيات. وبالتوازي كانت تجري دراسات وفحوص لاختيار الموقع المناسب لأنشاء المحطة.
تبني إسرائيل لتدمير مشاريع الطاقة الذرية العراقية
كان مشروع تموز يسير سيراً حثيثاً حتى تبنت تل أبيب عمليات لتخريب المشروع، ففي 7 نيسان/ ابريل عام 1979 م كان قلب المفاعل اوزيراك جاهزاً للشحن إلى بغداد من ميناء سين سورمير (Saint sur Mer) الفرنسي حين اخترق سبعة عملاء للموساد الإسرائيلي باب المخزن العائد لشركة” سي. ان. اي. ام” (إحدى الشركات المشاركة ي تنفيذ المشروع) وفتشوا عن هدفهم ثم وضعوا فيه المتفجرات بهدف تحطيمه غير أن تقويم الأضرار أثبت أنها لم تكن كبيرة فأُصلحت ولم تؤثر الحادثة سوى في تأخير اكتمال المشروع لأسبوع واحد فقط.
وخلال عام 1979بعد هذا التفجير طلب المجهز الفرنسي موافقة المنظمة على تغيير مواصفات مفاعل اوزيراك بحيث يتم تشغيله بحزمة من وقود (الكاراميل) واطئ التخصيب بدلا من وقود عالي التخصيب المتفق عليه وكان هذا الطلب بسبب الضغط الاسرائيلي على الفرنسيين لتغيير المواصفات، لكن منظمة الطاقة الذرية العراقية رفضت التعديل واصرت على مواصفات العقد المتفق عليها.
في 13 حزيران 1980تم اغتيال الدكتور المهندس يحيى المشد، وهو عالم مصري كان يعمل في المشروع النووي العراقي، حيث كان استشاريا في الاتفاق الفرنسي /العراقي، واثناء تواجده في غرفته في فندق مريديان في باريس تم اغتياله بالة حادة من قبل احدى المنتحلات مهنة بائعات الهوى وسرعان ما اختفت المرأة وبدت اصابع الموساد واضحة في تنفيذ عملية الاغتيال.
في السابع من آب /اغسطس 1980تم تفجير أربعة قنابل، اثنان في مقر شركة (SNIA-Technit) في روما المسؤولة عن تجهيز مفاعل 30 تموز للعراق، وواحدة في دار مدير فرع الشركة في ميلانو، وواحدة في بيت خبير مفاعلات نووية في باريس.
في 13 ديسمبر/كانون اول 1980، تم اغتيال المهندس المدني الاستشاري عبد الرحمن رسول باستعمال السم في مقر اقامته في باريس. وفي ابريل /نيسان 1981 اصيب الدكتور المهندس سلمان رشيد سلمان اللامي بحالة تسمم اثناء حضوره ورشة عمل في جنيف، توفي على أثرها في 9 حزيران 1981.
وكانت الضربة الاشد في السابع من حزيران/يونيو 1981، حيث قامت مجموعة طائرات إسرائيلية بغارة مباغتة على بغداد، وقد كان العراق حينها يخوض حربا مع إيران مما جعل تركيز قواته وراداراته على الجهة الشرقية من الحدود، فجاءت الغارة من الجنوب الغربي مباغتة لتمطر مفاعل اوزيراك بوابل من القذائف، ونتج عنها تدمير المفاعل، الذي كان ما يزال في عهدة الجانب الفرنسي وفي طور الاستلام والتسليم حيث كان جاهزا للتشغيل التجريبي، ولم تسلم البنايات الخدمية المجاورة للمفاعل من الأضرار.
وكان رئيس الوزراء في تلك الفترة مناحيم بيغن برر هذا العدوان الذي جرى قبيل الانتخابات التشريعية الإسرائيلية بقوله ان مفاعل تموز كان على وشك ان يصبح عملا واقعيا مما كان سيتيح للعراق أنتاج قنابل ذرية. وأثار العدوان انتقادات حادة دولياً بما في ذلك الحكومة الامريكية، وفي 19حزيران/ يونيو 1981م تبنى مجلس الأمن بالإجماع “إدانة قوية للهجوم العسكري الذي شنته اسرائيل”. وبعد عدة أشهر، أكد وزير التجارة الخارجية الفرنسي “ميشال جوبير” أثر زيارة رسمية لبغداد موافقة فرنسا المبدئية على أعادة بناء المفاعل النووي ولكن ظلت هذه التصريحات بدون تنفيذ عملي.

لماذا قصفت إسرائيل مفاعل تموز النووي العراقي عام 1981
لم تكن عملية تدمير المفاعل في العراقي في بغداد في 5 حزيران 1981 تجسيداً للنظرية الأمنية (الإسرائيلية) في الضربة الوقائية – الاستباقية فقط، وانما كانت تعبيراً لعملية استنزاف الطاقات البشرية والموارد المالية العراقية.
لقد أكد ارييه ناؤور مستشار رئيس الوزراء (الإسرائيلي) الأسبق مناحيم بيغن آنذاك على السياسة الأمنية (الإسرائيلية) قائلا : ان تطوير السلاح النووي في دولة معادية، هو أكبر خطر يهدد إسرائيل ” فعندما اقترح مناحيم بيغن على حكومته تدمير المفاعل النووي العراقي، طرح مبرراً مفاده أنه يكفي إلقاء ثلاث قنابل نووية بحجم هيروشيما على (إسرائيل) حتى يتم تدميرها، ودولة العراق قد تلجأ إلى استخدام سلاح كهذا، إذا نجحت بإنتاجه ولذلك بلور بيغن ما عرف بنظرية بيغن التي تنص على أنه لا يمكن (لإسرائيل) أن تسمح لدولة معادية بتطوير أو حيازة سلاح للتدمير الجماعي ،وكان ذلك في أكتوبر 1980، أي بعد اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية بزمن قصير.
الطريق الذي سلكته الطائرات الإسرائيلية عند قصفها لمفاعل 14 تموز

قام الكيان الصهيوني بقصف المفاعل النووي العراقي، في الساعة السادسة والربع من عصر يوم الأحد الموافق 7/6/1981 حيث انقطع البث الإذاعي في عموم بغداد واستمر لمدة 15 دقيقة، بواسطة مجموعة من طائرات الحربية التي استطاعت أن تخترق الأجواء السعودية والعراقية وصولا إلى هدفها الذي يقع في الجنوب الشرقي من بغداد، في المدائن، دون أن يستطع أي جهاز من أجهزة الرصد السعودية أو العراقية، وبالأخص العراقية التي كان من المفروض أن تكون متطورة في ذلك الوقت أي في ظرف الحرب العراقية الإيرانية، من اكتشافها.
ليس هذا فقط بل استطاعت هذه المقاتلات تدمير مفاعل تموز دون أن يتم إسقاط أو إصابة أية طائرة منها ،واكدت التقارير حينها بجانب القصص الموثقة في مقالات وكتب اخري فلقد قام صدام حسين بزيارة الموقع بعد نصف ساعة من القصف الإسرائيلي وبصحبته عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، ووفقا للمعلومات المؤكدة فإن صدام حسين أعدم بالفعل 14 ضابطا وجنديا عراقيا لاتهامهم بالتقاعس في واجباتهم تجاه حماية المفاعل، علما إن الطائرات الإسرائيلية حلقت فوق المفاعل النووي العراقي على ارتفاعات منخفضة مما يعني صعوبة رصدها من قبل الرادار العراقي.
ان الطائرات الاسرائيلية التي قامت بالغارة هي ثمان طائرات مقاتلة – قاذفة اف 16، أمريكية الصنع تغطيها طائرات اعتراضية نوع اف -15، إلى أن هذه الطائرات كان من المفروض أن تسلم أصلا لشاه إيران في عام 1982، ولكن بعد زوال الشاه تم تسليمها للكيان الصهيوني.
وبتلك العملية تكون إسرائيل قد حققت ما حذر منه البروفسور اليهودي إسرائيل شاحاك في كتابه (أسرار مكشوفة سياسات إسرائيل النووية والخارجية) قد تجسد واقعا مؤلما فقد قال في الصفحة 56 من الكتاب: أشعر بأن من الواجب تذكير القراء من غير الإسرائيليين أنه في حين أن الاستراتيجيات الإسرائيلية إقليمية في توجهها فإن اهتمامها بالفلسطينيين ثانوي.. فالحقيقة أن قمع الفلسطينيين لا يهم، لأن هم الاستراتيجية الإسرائيلية في نهاية الأمر هو فرض سيطرتها على كامل الشرق الأوسط من خلال انفرادها بسياستها النووية.